الحرية والمسؤولية
عندما ندخل لقسم ما ونجد
نافذة محطمة فإننا نتجه باهتمامنا إلى البحث عن الفاعل ، والشيء نفسه في جميع
الأحداث مهما كان نوعها ، لكن لماذا هذا الاهتمام ؟ مما لا شك فيه أن الهدف هو
تحميل الفاعل المسؤولية ، الشيء الذي يثبت أن وجود المسؤولية يستلزم فعل نضعه على
عاتق شخص ما لأنه تسبب في حدوثه ، وكان في مقدوره عدم القيام به ، وقد يتسع مجال
المسؤولية ليشمل كل من هو تحت مسؤوليته ، لكن هل مجرد قيام الفرد بالفعل تترتب عنه
المسؤولية ؟ ، إننا لسنا مسؤولين إلاّ عن الأفعال التي نقوم بها ، أي الأفعال التي
نعدها أفعالنا بحق ونحن على يقين بأننا قمنا بها عن قناعة وحرية ، هذه العملية
طرحت مسألة أيهما مصدرا للآخر الحرية أم المسؤولية ؟. وهل المشكلة متعلقة الحرية
أم المسؤولية ؟ .
أولا : المشكلة مرتبطة بالحرية باعتبارها شرط لا في
المشروط " المسؤولية "
الحديث عن المسؤولية لا
يستقيم إلاّ بوجود الحرية ، لكن السؤال المطروح هل حقيقة الإنسان حر أم مقيد ؟
للإجابة على هذا التساؤول نستعرض الآراء التي تتناول هذه المسألة .
01 – اثبات الحرية :
الحرية مبدأ مطلق لا يفارق
الإنسان ، وهو أزلي يتخطى مجال الدوافع الموضوعية والذاتية على حد سواء ويتمثل
تارة في قرار الإنسان قبل نزوله إلى الأرض ، وتارة في شعوره بالحرية أو كونه صاحب
إرادة وقرار ، وتارة في أعماق النفس وطبيعة الذات الوجودية .
الحرية الانسانية مطلقة لأن الله بريء من أفعال البشر التي اختاروها بمحض
إرادتهم ، وهذا ما أكد عليه أفلاطون من خلال أسطورته المرتبطة بالجندي " آر
" وهذا ملخصها :" إن آر الجندي الذي استشهد في ساحة الشرف يعود إلى
الحياة من جديد بصورة لا تخلو من المعجزات ، فيروي ويصف لأصدقائه الأشياء التي
تمكن من رؤيتها في الجحيم حيث أن الأموات يطالبون بأن يختاروا بمحض حريتهم مصيرا
جديدا لتقمصهم القادم ، وبعد ذلك يشربون من نهر النسيان " ليثه " léthé ثم يعودون إلى الأرض ، وفي الأرض
يكونون قد نسو بأنهم هم الذين اختاروا مصيرهم ويأخذون في اتهام القضاء والقدر
." وهذا دليل على أن الفرد هو الذي يتحمل المسؤولية وليس الله لأن هذا الأخير
بعيدا عن أفعال العباد الإرادية لأنه بريء . وفي هذا الاتجاه يؤكد كانط أن الحرية
علية معقولة متعالية ومفارقة للزمن وليس بدعة أن يكون الإنسان حرا و مسؤولا ما دام
اختياره الأصلي إنما يتحقق في عالم مطلق معقول ، لا يخضع بأي حال لقيود الزمن ،
وإن صاحب السوء هو الذي قد يكون اختار بكل حرية تصرفه منذ الأزل بقطع النظر عن
الزمن أو الطباع ، فالشرور الفاشية في العالم إنما هي نتيجة حرية الاختيار
ويذهب المعتزلة بزعامة واصل بن عطاء إلى أن شعور المرء أو إرادته هي العلة الأولى
لجميع أفعاله مستدلين على ذلك بحجج عقلية
وأخرى نقلية ، فالدليل العقلي يتمثل في أن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يعي
بالقدرة الإقدام أو الإحجام على فعل أمر ، ومما يؤكد هذا الأمر أن الإنسان يفرق
بين الأفعال التي يقوم بها كأن يطالع أو يكتب أو بين الأفعال التي تجري عليه كرها
كإرغامه على القيام بعمل ما تقول المعتزلة
:" إن الإنسان يحس من نفسه وقوع الفعل على حسب الواعي والصوارف فإذا أراد
الحركة تحرك ، وإذا أراد السكون سكن ."، ولهذا فإن التكليف مرتبط بالوعي ،
ولما وجد الوعي وجد التكليف وعلى هذا فإنه سيحاسب في الآخرة على الطاعة من جهة وعلى
المعصية من جهة أخرى ، وهذا برهانا على كمال عدل الله . واعتمدوا كذلك في إثبات
دعواهم على كثير من الآيات التي تنسب للإنسان الحرية كقوله في سورة الكهف آية 29
": فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ." وقوله تعال في سورة الأعراف آية 23
:" ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .". وفي
السياق نفسه نجد الفيلسوف الفرنسي رونيه ديكارت حينما أكد على أن الحرية تدرك
بطريقة مباشرة دون الاستدلال أو البرهان
عليها يقول :" إن حرية إرادتنا يمكن أن نتعرف عليها بدون أدلة ، وذلك
بالتجربة وحدها التي لدينا عنها ." وهنا نجد ديكارت يشبه الحرية بالأمور
البديهية التي تعود عليها الفرد والتي يتقبلها مباشرة .
هذا ونجد برغسون يرى أن الحرية هي عين ديمومة الذات ،
والفعل الحر يصدر في الواقع عن النفس بأجمعها وليس عن قوة معينة تضغط عليها ، أو
عن دافع بالذات يتغلب على غيره ، والديمومة عبارة عن تغبر مستمر بحيث لا يمكن أن
تتكرر حالتان متشابهتان تمام التشابه ، والعلة الباطنية العميقة تنتج معلولها مرة
واحدة ، ولكنها لا تنتجه بعد ذلك أبدا لهذا فالحرية تدخل ضمن معطيات الشعور
المباشر لا معطيات الحتمية العلمية التي يكشف عنها قانون العلية ، فالحرية ليست
موضوع للتفكير أو التحليل يقول برغسون :" إن الفعل الحر ليس فعلا ناتجا عن
التروي والتبصر ، وإنه ذلك الفعل الذي يتفجر من أعماق النفس ." هذا التصور
البرغسوني يؤكد على أن الإنسان صانع أفعاله بحريته المطلقة دون الخضوع للتأثير
الآلي المرتبط بمبدأ الحتمية .
ما يثبت أن الفرد حر حرية مطلقة هو أنه هو الذي يصنع
هويته بنفسه ما دام لا يخضع لأي قوة أخرى ، هذا ما حاول أن يؤكد عليه جون بول سارت
بقوله :" إن الإنسان لا يوجد أولا ليكون بعد ذلك حرا ، وإنما ليس ثمة فرق بين
وجود الإنسان ووجوده حرا ." وهذا يثبت أن وجود الإنسان سابق لماهيته أي أنه
كائن أولا ثم يصير بعد ذلك هذا أو ذاك لأنه مضطر للاختيار والمسؤولية .
وعليه نجد
هذه التصورات تثبت الحرية بالنسبة للإنسان ،لذا يجب أن يتحمل المسؤولية الكاملة
الناجمة عنها .
لكن القول بالحرية المطلقة تصور مبالغ فيه كثيرا ،
كونه تجاوز قانون الكون لهذا أصبحت هذه التصورات السابقة مجرد وهم ، لأن الإرادة
ليست تلك القوة السحرية التي تقول للشيء كن فيكون ،وتنفلت من كل مؤثر خارجي كان أو
داخليا لأن العوامل الإجتماعية والرغبات اللاشعورية والتقلبات الجوية ، والمؤثرات
البيولوجية لها تأثير على الإنسان لهذا فإن شعورنا بأننا أحرار مصدر انخداع وغرور
لأن الشعور ظاهرة ذاتية متغيرة من شخص لآخر ، لهذا فلا يمكن أن نبني ما هو مطلق
على ما هو متغير ، لذا فحرية برغسون هي حرية الفرد بمعزل عن الآخرين ، أما عن تصور
سارتر فهو تصور متشائم ينفي القدرة الإلهية ، كما أنه بدلا من إثبات الحرية نفها
بصورة غير مباشرة ،أما المعتزلة فجعلت من دور الدين ثانوي ما دام الفرد هو الذي
يقوم بالفعل ، وبالتالي لا وجود للقضاء والقدر .
نفي الحرية :
ينفي بعض
الفلاسفة الحرية عن الإنسان باسم الجبرية تارة والحتمية تارة أخرى .
أنصار الجبرية :
الحرية غير
موجودة ما دامت أفعال البشر مقدرة عليهم من عند الله ، لهذا فإن الإنسان يخضع مثله
مثل الكائنات الأخرى لضرورة متعالية هي القدرة الإلهية ، هذا ما حاول أن يؤكد عليه
الجهمية بزعامة جهم بن صفوان ، فالله عز وجل خلق الإنسان وحدد أفعاله وسلوكاته
بقدرته الكلية المطلقة ، ولهذا فالإنسان مجبر على أفعاله ولا إرادة له وعلى هذا
الأساس تكون إرادتنا تابعة لنظام الكون ،فلا حول ولا قوة له لتجاوزه ، واختياره ما
هو إلاّ وهم ، والأفعال تنسب للإنسان على سبيل المجاز فنقول تحرك الفرد ، وأثمرت
الشجرة ،واستندوا في إثبات دعواهم على ما ورد في القرآن الكريم من الآيات التي
يفيد ظاهرها التسخير ، من ذلك قوله تعال في سورة التكوير الآية 29 :" وما
تشاءون إلا ّ أن يشاء الله رب العالمين."
نفي الحرية بإسم الحتمية :
الحتمية
مبدأ عقلي علمي يقوم أساس على القول بأنه كلما توفرت نفس الشروط أدت إلى نفس
النتائج ، وانطلاقا من هذا ذهب البعض إلى نفي الحرية باسم هذا المبدأ الذي يسري
على جميع الظواهر سواء الطبيعية أو الإنسانية .وأهم هذه الحتميات يمكن حصره فيما
يلي :
- الحتمية الحيوية " البيولوجية "
يرى أنصارها أن سلوك الإنسان يخضع إلى التغيرات
الفيزيائية الكيميائية في الجسم ، ويستندون إلى بعض الحقائق العلمية منها أن كل
واحد عند الولادة يكون حاملا لمعطيات وراثية تتعلق بالعتاد الكروموزومي الوراثي
كالجنس " ذكر أو أنثى " والخصائص الأساسية للمزاج والتشويهات المختلفة
أو الألم الجنيني الذي يحدث نتيجة لما يصيب تطور المضغة خلال الحمل .
الحتمية النفسية :
الظواهر
النفسية ليست سوى مجرد أحداث كونية يمكن تحديدها وتفسيرها والتنبؤ بها إذا عرفنا
شروطها ، وأسبابها وعللها القريبة أو البعيدة ، ومعنى هذا أن كل نشاط نفسي متوقف
على الحالة التي سبقته سواء كان وجداني كالأهواء والرغبات ، أو إدراك وتذكر مما لا
يدع مجالا للحرية ، ونجد هذا الزعم عند المدرسة السلوكية والتحليل النفسي ،
فالأولى – المدرسة السلوكية – ترى أن أفعال الإنسان تعود أفعال المنعكس الشرطي
التي تظهر في صورة مؤثر واستجابة ، وإذا ربطنا كل مؤثر باستجابة معينة أمكننا أن
نتنبأ بالإستجابة ، ولنوضح هذه الفكرة بالمثال التالي : فضروب السلوك التي نواجه
بها مؤثرات البيئة ما هي سوى منعكسات شرطية اكتسبت بالتجربة كالغضب يرجع مثلا إلى
الشتم او تضييق الحرية .أما مدرسة التحليل النفسي بزعامة فرويد فترجع كل أفعال
الإنسان إلى الرغبات المكبوتة في أعماق اللاشعور منذ عهد الطفولة وبالتالي لا فعل
للفرد وإنما كل أفعاله تحددها طبعة الرغبات المكبوتة .
الحتمية الإجتماعية :
يعتقد بعض
علماء الإجتماع بزعامة دوركايم أن الظواهر
الإجتماعية تسير وفق قوانين ثابتة تخضع لمبدأ الحتمية كغيرها من الظواهر الطبيعية
، كعاداتنا وأفكارنا الناتجة عن التربية التي تلقيناها في الوسط الذي نعيش فيه ،
والطبقة التي ننتمي إليها ، مما يجعل هذا الوسط يحدد أفعال الفرد يقول دوركايم
:" إذا تكلم الضمير فينا فإن المجتمع هو الذي يتكلم ." وهذا يعني أن
الفرد مقيد بما يوجد داخل المجتمع ، وبالتالي فشخصية الفرد هي شخصية الجماعة .
النقد :
لكن هل يمكن تصور الفرد دون عقل أو تفكير ؟ لهذا فإن
هذا التصور مبالغ فيه لأن القول بالجبر فيه ظلم والله لا يتصف بهذه الصفة بل
بالعدل ن فكيف نقول بالقضاء والقدر ثم نحاسب الفرد على الفعل في الآخرة ، كما أن
القول بالحتمية لا يعني نفي الحرية لأنها قد تكون من أسباب التي تؤدي إلى النتائج
، كما أن نفي الشعور والإقرار باللاشعور جعل الإنسان والحيوان في نفس المرتبة ،
إضافة لهذا كله نجد أن شخصية الفرد ليست شخصية الجماعة
الحرية
الإنسانية موجودة لكن ضمن شروط هذا ما حاول أن يجسده ابن رشد حيث أكد أن الله منح
العبد الإرادة ليصرف بها أمره ، وقدرة تمكنه من فعل الشيء وضده ، وفي هذا ما يبرر
تحمل مسؤوليته ، إلاّ أن هذه القدرة والإرادة ليستا مطلقتين بل هما خاضعتان لأسباب
داخلية كالغرائز والانفعالات والدوافع التي خلقها الله في الفرد ، وخارجية تتمثل
في البيئة التي نحتك بها ونحتاج إليها وكل هذه الأشياء مقدرة عليه بقضاء الله
وقدره ، وبالتالي الله خلق الإنسان وجعل له العقل ليميز به بين الأفعال لهذا
سيتحمل نتيجة فعله أمام الله .
** من خلال تحليل المواقف السابقة نجد هناك تعارض في
الآراء بين النافي للحرية والمؤيد لها لكن يمكن صياغة الإشكال التالي والذي يمكننا
من صياغة المسألة صياغة أخرى : هل يسعى الإنسان إلى
الحرية أم التحرر ؟
أو بعبارة أخرى هل القضية تتعلق
بحرية الإنسان أم تتعلق بتحرره ؟
التحرر مرتبط بالعمل على تجاوز كل
الإكراهات والقيود ، فالحرية والحتمية ضدان يمكن أن يصدقا أي الاعتراف بالحتمية
والعمل للتحرر من منها . وهنا تعددت التصورات :
الماركسية
ترى أن الحرية الحقيقية تنحصر في حركة تحرر الإنسان من قوانين الطبيعة ومن الطبقية
، فالتحرر من قوانين الطبيعة يتم وفق معرفة قوانينها والسيطرة عليها لتحقيق بعض
الأهداف المعينة بطريقة ممنهجة ومرسومة ، فليس شك في أن حرية الإنسان قد تزايدت بتزايد
معارفه العلمية ، وقدراته الفنية واختراعاته الآلية ، وفيما يخص التحرر من الطبقية
فيتم بوعي الطبقة العاملة لاغترابها الاقتصادي من لدن الرأسماليين ، وإسقاطها
لقيام مجتمع طبقي تحيا فيه حياة حرة من كل استغلال ، وهكذا يكون الوعي هو السبيل
إلى التحرر سواء أكان ذلك على مستوى الطبيعة أم على مستوى المجتمع يقول إنجلز :"فالإنسان لم يكن يتميز عن الحيوان فإن سيطرته
على نفسه وعلى الطبيعة لم تكن بعد قد تحققت ، وبالتالي فإن حظه لم يكن يزيد عن حظ
الحيوان منها ، ولكن من المؤكد أن كل خطوة خطاها في سبيل الحضارة لم تكن سوى مرحلة
من مراحل تحرره .".
وعليه فإن الحرية ليست سوى القدرة على التحكم في
أنفسنا وفي العالم الخارجي الذي يحيط بنا .وهذا ما أكدت عليه الشخصانية ، فهي لا
تعتبر الحرية مسألة ذاتية شعورية بل تعتبرها عملية تحرر مستمر ، وترى أن هناك عدة
وجوه لتحرر الشخص الموجود في التاريخ ، والحاضر في الطبيعة ، فمن جهة أولى أن
الشخص مدعو للتحرر من طبيعته البشرية ، وذلك بإعلان الرغبات والميول والأهواء
وتجاوز أنانيته البيولوجية ، ومن جهة ثانية أنه مدعو للتحرر من كل حياة سهلة رخيصة
يهبها له المجتمع مقابل استسلامه لقسره المجتمعي ، ومن جهة ثالثة على الشخص أن
يتحرر من الضرورة الطبيعية بالاستقلال عنها يقول رائد هذا الاتجاه إيمانويل موني
:" إن الحرية لا تكتسب بمضادات الطبيعة إنما تكتسب بالانتصار عليها وبها
." والواقع أن الحرية الشخصانية هي حريات أو عملية تحرر ماثلة في إسهامات
الأشخاص السياسية والاقتصادية ، وفي محاربة الشخص لنزوات طبيعته البشرية .
النقد :
هذه النظرة حاولت أن تبين لنا أن الإنسان بالعلم
والوسيلة يمكن له أن يتحرر من الحتميات التي هو خاضع لها ، إلاّ أن العلم الذي
توصل له الفرد لم يمكنه من التحرر تحررا مطلقا ، لأن الفرد كلما تحرر من حتمية
إلاّ ويجد نفسه أمام حتمية أخرى ، فبالعلم مثلا تمكن الإنسان من تسخير الطبيعة
لخدمته وتلبية حاجياته البيولوجية ، وتحويل المواد من حالة صلبة مثلا إلى حالة
سائلة ، لكن كثرة المصانع أدت إلى ارتفاع درجة الحرارة والتلوث ، وما ثقب طبقة
الأوزون إلاّ مبررا على أن تحرر الفرد نسبي وليس مطلقا .
** إذن إذا
كانت الحرية شرط للمسؤولية فكيف لنا أن نؤسس لها والحرية لم تثبت إثباتا مطلقا ،
ورغم ذلك تبقى المسؤولية قائمة ويتحملها الفرد بوصفه إنسان .
ثانيا المسؤولية كمشروط تبرر وجود
الحرية كشرط
نظرة تجعل من المسؤولية هي المبدأ والمنطلق الذي
يجب إثباته وتبريره ، لأنه إذا وجدت المسؤولية ترتب عنها بالضرورة وجود الحرية ،
أن الإنسان ما دام مسؤولا فهو حرا ، بمعنى المسؤولية كمشروط تصير تسبق الحرية كشرط
. فكيف يمكن تبرير ذلك ؟
تعريف المسؤولية :
لغة : مصدر صناعي من اسم المفعول
" مسؤول " المشتق من " سأل" ، وهي تعني أن الفرد مسؤول عن
الأفعال التي قام بها في الماضي وخلفت وراءها أثارا .
إصطلاحا : تحمل الشخص ما يترتب عن
أفعاله المخالفة للقانون مثل الغش والتزوير ، أي أن المسؤولية من حيث هي تبعة
تتألف من ثلاث عناصر : مخالفة وضرر وعلاقة سببية بينهما .
شرطا المسؤولية :
الوعي : يقصد بالوعي القدرة على التمييز بين ما هو
خير وما هو شر في الأفعال ، ومعرفة النتائج الحسنة في التصرفات والأعمال ، ولا
يمكن لأي شخص أن يتوفر على هذا الشرط إلاّ إذا بلغ مرحلة النضج العقلي ، باعتباره
علامة على اكتمال وظائفه العقلية ، بدليل أن من لم ينضج عقليا لا يميز كثيرا بين
الأعمال الصالحة والأعمال الطالحة ولهذا رفعت المسؤولية عن الحيوان لأنه كائن غير
عاقل ، وعن الطفل لأنه لم يبلغ سن الرشد ، وعن المجنون لأنه فقد وعيه ، فمن لا
يدرك ما يعمل لا يسأل عما جنت يداه ، وهذا ما نص عليه الحديث النبوي الشريف "
رفع القلم عن ثلاث : الصبي حتى يحتلم والمجنون حتى يعقل ، والنائم حتى يستيقظ
."
02 – الحرية :
إن الوعي في
حد ذاته لا يكفي لقيام المسؤولية فقد تكون لدى الشخص القدرة على التمييز بين الخير
والشر ، ولكن ليس في امكانه أن يحدث الفعل أو يمتنع ، أي غير قادر على الاختيار ،
لهذا فالشعور بالمسؤولية مبنيا على الشعور بالحرية ، لذلك لا يكون الشخص مسؤولا إلاّ
عن الأفعال الإرادية الحرة النابعة من ذاته العاقلة ، فإذا قام هذا الشخص بفعل تحت
تأثير أو إكراه سواء داخليا كالمرض ، أو خارجيا كالوقوع تحت سلطة شخص آخر فإن هذا
الشخص لا يعد مسؤولا ، لأن حرية الاختيار منعدمة ، ولا بد من التمييز هنا بين
الإكراه والخطأ ن فقد يكون الشخص غير مكره لكنه يخطئ فيفعل ما لا يجب فعله ، وهو
بذلك لا يتحمل المسؤولية من الناحية الأخلاقية لأنه فعل غير إرادي ، لكن العدالة
على الرغم من ذلك تعاقبه وتحمله مسؤولية فعله ، وهذا حتى يحتاط الناس أكثركما هو
الشأن في القتل الغير عمدي .
النتائج
التي تترتب عن الفعل والتي يتحمل الفرد مسؤوليتها تختلف بحسب الضرر ، الشيء الذي
أدى إلى تنوع المسؤولية بين الأخلاقية والإجتماعية .
أنواع المسؤولية :
المسؤولية الأخلاقية :
تتمثل في
الشعور الداخلي بالتبعة ، أي فيما يترتب عن مخالفة القانون الأخلاقي ، كشعور
التلميذ الذي يغش في الامتحان بأنه قام بفعل لا تأمر به الأخلاق ، أو التاجر الذي
لا يفي بالكيل والميزان ، المسؤولية الأخلاقية تقوم أساسا على تأنيب الضمير
باعتباره المحكمة الداخلية التي يخضع لها الفرد ، لأن المسؤول والسائل شخص واحد
،ومن هنا كانت المسؤولية الأخلاقية ذاتية ، وكان مدارها النية أو القصد ، وفي هذا
السياق يقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل
امرئ ما نوى ."
المسؤولية الإجتماعية :
مسؤولية
قانونية ناتجة عن الحياة الجماعية التي يعيشها الفرد ، وأساسها الضرر الذي يلحق
بالغير سواء في شخصه أو ممتلكاته أو حياته ، وهي نوعان :
أ – المسؤولية المدنية :
تتولد عن
المخالفات التي تلحق الضرر بممتلكات الغير بصفة عامة ، ومن ثمة كان تعويض الضرر
محور العقوبة التي تفرضها المحكمة على الجاني ، وغالبا ما تكون مالية ، غير أن
تبعة المسؤولية المدنية لا تقتصر على الفرد المسؤول ،بل يمكن أن تمتد إلى الأفراد
الآخرين الذين هم تحت كفالته ، كالأبناء غير الراشدين والحيوانات ... إلخ .
ب – المسؤولية الجنائية :
تتولد عن الضرر الذي يلحق الغير من جراء خرق النظام
العام ، أو الاعتداء على حقوق الآخرين ، ولكنها تختلف عن المدنية في نوعية العقوبة
، لأن الضرر هنا يتعلق بجريمة تهدد حياة الأفراد وممتلكاتهم ، ولهذا أخذت العقوبة
شكل القصاص بدلا من التعويض ، فقد تكون الإعدام ، وقد تكون السجن المؤبد أو المؤقت
، وقد تجمع العقوبة بين القصاص والتعويض
** الفرق
بين المسؤولية الأخلاقية والاجتماعية لا يعني وجود تربط بينهما وتداخل ، لأن
الأخلاقية كثيرا ما تؤثر في الاجتماعية بدليل أن العدالة تميز في أحكامها بين
القتل المتعمد والغير متعمد ، لهذا تصبح للمسؤولية الاجتماعية أبعاد أخلاقية
والعكس ، وهذا ما طرح مشكلة المسؤولية من زاوية أخرى وهي الجزاء بين النظرة
العقلية المؤكدة لتحمل الفرد مسؤوليته ، والتصور الوضعي المؤكد على أن دور العقاب
مرتبط بالإصلاح لا الردع .
التصور
العقلي والديني
يذهب رجال الدين وفلاسفة الأخلاق إلى الإقرار
بأن التكليف يسبق الحرية ويتقدمها ، ومن ثمة تبرير وجود المسؤولية كمشروط سابق عن
الحرية مهما كان التكليف إلهيا أو تكليف أخلاقيا فنجد المعتزلة كفرقة كلامية
بزعامة واصل بن عطاء تقر بأن مبدأ التكليف الإلهي
للعباد يثبت لزوم الحرية ، وإلاّ كان عديم المعنى ولا بطل الوعد والوعيد
وما فائدة العقاب الإلهي وإلاّ يصبح الله يتصف بالظلم ، يقول المعتزلة :" إن
الإنسان لو لم يكن حرا لكان التكليف سفها ولبطل الوعد والوعيد والثواب والعقاب ،
فلا يصح عقلا أن تقول لمن ليس حرا : افعل ولا تفعل ". وفي هذا السياق يستدل
المعتزلة بالآية الكريمة :" لا يكلف الله نفسا إلاّ وسعها ." وبهذا نجد
المعتزلة تثبت الحرية على أساس المسؤولية. وفي سياق الإلزام الأخلاقي يصرح كانط أن
الواجب يتضمن الحرية لأن القيم الأخلاقية الحقيقية مرتبطة بالأوامر القطعية
المجسدة في " أن تفعل كذا ..... ولا تفعل
كذا .... " لهذا فالواجب كإلزام أخلاقي وتكليف هو الذي يسمح لنا بتصور امتلاك
الإنسان للحرية ، وهنا يقول كانط :" إذا كان يجب عليك فأنت تستطيع ".
إذن الواجب الأخلاقي يسبق الحرية ويثبت وجودها ، وهذا
ما دفع بالعديد من الفلاسفة العقليين إلى التأكيد على أن وجود المسؤولية يثبت
الحرية بالنسبة للفرد ، ذلك أن هذا الأخير يتمتع بحرية كاملة في تصرفاته وأفعاله ،
إذ بإمكانه أن يحدث الفعل من تلقاء نفسه أو يمتنع ، وبالتالي يستطيع أن يلتزم
بقواعد القانون ويستطيع ايضا أن يتجاوزها ، وعندئذ يحمله القانون المسؤولية على
الفعل الذي اختاره بإرادته ، فالعقوبة حسب التصور الكلاسيكي تبرز أخلاقيا لأنها
مرتبطة أشد ارتباط بالقانون الأخلاقي يقول لايبنيتز :" هناك نوع من العدالة
ليس له قطعا غرض التعديل ولا غرض المثل ولا حتى غرض إصلاح الشرور ن هذه العدالة لم
تقم إلاّ على التوافق الذي يستلزم ضربا من الرضا في التفكير عن فعل سيء ."
ونفس
الفكرة يعبر عنها مالبرانش في كتابه مقالة في الأخلاق بقوله : إن جزاء الاستحقاق
وعقوبة الخطيئة يقتضيهما النظام الضروري للعدل ، وهو القانون الذي لا يجوز انتهاكه
ونقضه لا من طرف العقول ولا حتى من طرف الإله نفسه " إن الذي يريد من الله
ألاّ يعاقب الجور أو إدمان الخمر لا يحب الله ". وعليه يصبح دور العقاب حسب
هذه النظرية يكمن في تأديب المجرم وردعه وحمله على معانات الإثم الذي اقترفه ،
فيحس بخطيئته وهذا ما يجعله يفكر في إصلاح أمره لكي يعوض سلوكه المنحرف .
نقد :
هذه النظرية جعلت الحرية مطلقة لهذا يتحمل
الفرد مسؤولية أفعاله ، لكن بالنظر إلى الحرية في أرض الواقع نجدها نسبية ،
وبالتالي لا يمكن تأسيس شيء على أساس متغير .
النظرية
الوضعية :
إن التطور
الذي عرفته الدراسات الحديثة حول فكرة العقاب والاهتمام بها من طرف علماء النفس والاجتماع
له أهمية في حياة الفرد ، فقد صار ينظر إلى العقوبة على أنها وسيلة لإصلاح المجرم
والوقاية من الجريمة ، والتخفيف من حدتها ، ومن أبرز رواد هذه النظرية مؤسس علم
الجريمة العالم الإيطالي سيزار لومبروزو وانريكو فيري وغيرهم عندما اعتبروا أن
أسباب الجريمة موضوعية خارجة عن نطاق حرية الفرد ، لهذا كانت دراسة العقاب دراسة
وضعية فلومبروزو اعتبر أن للمجرمين استعدادات فطرية ووراثية للجريمة وان تنوع
الجرائم في المجتمع يعود إلى تنوع ميول هؤلاء الأفراد ، وأطلق عليها لومبروزو
النقائص البيولوجية وهي في الغالب وراثية يزود بها المجرم منذ الولادة وعندما
ستطيع العلم اكتشاف الأسباب بدقة يمكن للإنسان عندئذ ان يعالج السلوكات الإجرامية
المرضية ويتنبأ بها، ومن وقسم لومبروزو المجرمين إلى أصناف أهمهم : المجرمين
بالفطرة ، والمجرمين المجانين ، والمجرمين العادة ، والمجرمين بالصدفة ..
وإلى جانب
هذه الفئة من المجرمين بالوراثة توجد فئة اكتسبت الجريمة عن طريق تأثير الظروف
الإجتماعية وقساوتها أو فساد المجتمع ، هذا ما ذهب إليه فيري حين بين أن الظروف
السيئة كالحرمان والفقر المدقع وغيرها تلعب دورا كبيرا في ظهور الجريمة وانتشارها
في المجتمع ، فمجاورة الغنى الفاحش مثلا للفقر المدقع يدفع الفرد للسرقة .
ومن بين المدارس التي أكدة على عدم وجود الحرية ،
وبالتالي لا يتحمل الفرد المسؤولية الكاملة مدرسة التحليل النفسي بزعامة الطبيب
النمساوي سيغموند فرويد ، هذه المدرسة فسرت السلوكات الإجرامية بردها إلى قوى
نفسية لاشعورية تتمثل في بعض الدوافع والميول ن والذكريات المكبوتة في لا شعور
الإنسان منذ أيام الطفولة ، ويمكن تفسير الخروج عن القانون ومختلف أشكال التمرد
والثورة كثورة ضد الأب الذي يمثل السلطة عند الطفل ، أي أنه شكل من أشكال إرضاء
الغريزة العدوانية ورفض سلطة الأب القاهرة التي تمنع الطفل من إشباع رغباته كلها.
لهذا إذا أردنا أن نحمي المجتمع من تكرار الجريمة
ينبغي الاهتمام بالمجرم من أجل الكشف عن الميل الذي كان وراء جريمته وتبعا لذلك
يحدد الجزاء الملائم والذي يكون وسيلة علاجية للمجرم
النقد : لا يمكن نفي دور مختلف الدوافع في رفع
المسؤولية عن الفرد لأنه غير حر ، لكن التطور العلمي لم يكشف لحد الآن عن الترابط
الموجود بين الحتمية والجريمة ، الشيء الذي من شأنه أن يبقي على المسؤولية
وبالتالي الحرية .
05
المسؤولية
وعظمة الإنسان :
01 – عظمة الإنسان لأنه
كائن القيم وحامل المسؤولية :
إن
عظمة الإنسان تتجلى في أن الله تعالى خلقه وسواه ، وعدله ونفخ فيه من روحه الشريفة
، واسجد له الملائكة تكريما لشأنه ، وعظمة الإنسان تكمن في أنه أوتيا العقل وملكة
الوعي ، بها يميز ويدرك وبها يحكم ، هذه الصفات تعطي لوجوده بعدا وقدرا ، وتثبت
إنسانيته وتؤكدها ، وتسمو به إلى درجة خدمة المطلق والجهاد في سبيله ، كل هذا يثبت
أنه كائن مسؤول وراع للمسؤولية ، لأنها خاصية جوهرية معبرة عن كيانه الإنساني ،
وتبعات وجوده ، وتصبح الحرية مجرد شرط للمُسَاءَلَةِ عن تبعات الفعل وكيفية إثباته
.
ولهذا ينظر إلى الطفل قبل سن الرشد على أنه يتحمل
تبعات أفعاله ويسأل عنها ، ويوجه إلى الحسن والقبيح ، ويمدح عن الخير ويزجر عن
الشر .
02 – عظمة الإنسان في كونه خليفة
الله في الأرض :
تتجلى عظمة الإنسان في أن الله شرفه ورفع من
قدره ، وحمله الأمانة والرسالة ، وجعله موضع التكليف واستخلفه في أرضه لينظر كيف يعمل
اتجاه خالقه ، وتجاه ذاته ،وتجاه الغير والوجود من جهة حسن العمل أو الاساءة لذلك
فهو مسؤول عما يفعل ، وفيما يختار .
03 – تسخير العلية العلمية والعلية
الفلسفية :
إن عالم
الظواهر والأشياء محكوم بعلية علمية تعبر عنها العلاقات السببية بين الظواهر في
شكل علة ومعلول وعظمة الإنسان تظهر من خلال عمله واجتهاده لكشف هذه العلاقات
العلية بين الظواهر وصياغتها في شكل قوانين وتسخيرها لصالحه وخدمته ككائن واع
وفعال ومسؤول .
والعلية الفلسفية كمبدأ يهتم بالأبعاد المعنوية
والميتافيزيقية للإنسان من حيث أفعاله وأنماط تفكيره ، وارتباطاته بالعلل الأولى ،
كل ذلك يعبر عن عظمة الإنسان وتحمله المسؤولية بين ما هو مادي وما هو معنوي ، وقدرة
الإنسان على تفسير العلل ، والتأثير فيها وكأنه الجوهر الذي تنتهي إليه كمسؤول
يتحمل تبعات ما يفعل اتجاه كل ذلك .
حل
المشكلة :
إن مشكلة العلاقة بين الحرية والمسؤولية ترتبط أشد الارتباط بالإنسان ، فكما أننا نقول
في مجال الفلسفة ،إن
الإنسان
حيوان عاقل نقول أيضا إنه كائن مسؤول بقطع النظر عن وضعه وأحواله وسنه ، ومهما
كانت عبقرية المفكرين في حصر مشكلته
وضبطها فإن لعظمة الإنسان بالنظر للكائنات الأخرى سر يزيده اعتبارا وكرامة في
أعين
المؤمنين بالخالق والفضوليين في إجلاء خباياه .
كل النجاح والتوفيق بإذن الله
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق